شرح قصيدة بم التّعلل لا أهلٌ ولا وطنُ للشاعر أبي الطيب المتنبي
المعلم: عفيف الجابري
الشاعر
أبو الطيب المتنبي (303هـ - 354هـ) (915م - 965م) ، هو أحمد بن الحسين الجعفي الكندي الكوفيُّ. شاعرٌ عبّاسي وُلِدَ في كندةَ إحدى مناطق الكوفة بالعراق. يُعَدُّ من أعظم شعراء العرب وأكثرهم تمكنا من اللغة العربية، بقواعدها ومفرداتها وأصول البلاغة فيها، وله مكانةٌ سامية لم تتخ لغيره من شعراء العرب بعد الإسلام. اشتهر بحدّة ذكائه، وظهرت موهبته الشعرية مبكرًا.
عاش أفضل أيام حياتِه وأكثرها عطاءً في بلاط سيفِ الدَّولة الحمداني في حلب؛ فكان من مُقرَّبِيهِ، وكان بينهما مودَّةٌ واحترام وحدثَتْ بينه وبين سيف الدولة فجوةٌ وسَّعَها كارهوه وحُسْاده، وكانوا كُثرا في بلاط سيف الدولة.
جَوَّ النَّصُ
نظم المتنبي هذه القصيدة حينَ بلغَهُ أنَّ قوما نعوه في مجلس الأمير سيف الدولة بحلب وهو بمصر ؛ فاختلقوا الأوهام بأن المتنبي قد ماتَ، وأنَّ سيفَ الدَّولة قدْ فَرِحَ بخبر موته.وقد كان أن أفسدَ الوُشاةُ والحُسّادُ علاقة المتنبي بسيف الدولة، فجفاه الأمير وصدَّ عنه؛ أيقن المتنبي عندئذٍ أنَّ المقامَ في بلاط سيف الدولة أصبحَ مُستحيلًا محفوفًا بالمخاطر؛ فاضطر إلى مغادرة حلب، ولم يقف منه موقف الساخطِ المعادي، وإنما كره الجوّ الذي ملأه حُسّاده ومنافسوه من حاشية الأمير. ارتحل المتنبي إلى مصر، حيث رحب به ملك مصر كافور الإخشيدي، وأقام عنده نحو أربع سنين، وكان يسعى إلى أنْ يُلبي كافور رغبته في أنْ يكونَ واليا على إحدى المناطق، لكنه لم ينل ما أراد.
الأفكار
1-4 يشكو الشّاعرُ زمانه وما آلت إليه حاله من حزنٍ واغتراب بعد عز
وإكرام.
5-6 يتعجبُ الشّاعرُ من الذين غرّتُهم الدنيا وملذاتها؛ فأهلكوا أنفسهم
حُزنًا عليها.
7-
12 يعتبُ الشّاعرُ على سيف الدولة لسكوته عن نعي
الوُشاة والحاسدين له بينما هو حي يُرزق.
13-15 يفتخرُ الشَّاعرُ بنفسه ويستعيد قوته من جديد ليعود لطبيعته
الطموحة.
16-20 يأملُ الشّاعرُ أن يحقق بعض طموحه عند ملك مصر الإخشيدي.
شرح الأبيات
1. بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ
وَلا وَطَنُ وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ
الشرح: يقول: بأي شيء أعلل نفسي، وأنا
بعيد عن أهلي ووطني، وليس لي شيء ألهو به ولا أحد أسكن إليه؟
2. أُريدُ مِن
زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني ما لَيسَ
يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ
المفردات: ذا: اسم اشارة (هذا) يبلّغني:
يوصلني
الشرح: أطلب من الزّمان استقامة الأحوال،
والزمان نفسه ليس يستقيم ففيه أربعة فصول ضد بعضها، وللشاعر همّة يصعب وصول الزمان
إليها
الصورة الفنية: شبّه الزمن
بإنسان لا يستطيع تبليغه أحلامه
3. لا تَلقَ دَهرَكَ إِلّا
غَيرَ مُكتَرِثٍ مادامَ
يَصحَبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ
المفردات: مكترث: مهتم
الشرح: يقول: ما دمت حيًّا فلا تبالِ
بالزمان وصروفه ونوائبه، فإنها تزول ولا تبقى، والذي لا عوض منه إذا فات هو الروح
فقط.
الصورة الفنية: شبّه
الدهر بالعدو، وشبّه الروح والجسد بالأصحاب
4. فَما يَدومُ سُرورٌ ما
سُرِرتَ بِهِ وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ
الفائِتَ الحَزَنُ
المفردات: الفائت: الماضي أو الغائب
الشرح: لا تبال بما يحدثه لك الدهر فإن ما تفرح
به لا يدوم، والحزن على الغائب لا يرده عليك.
سرور-الحزن: طباق
5. مِمّا أَضَرَّ بِأَهلِ
العِشقِ أَنَّهُمُ هَوُوا وَما
عَرَفوا الدُنيا وَما فَطِنوا
الشرح: يقول الشاعر أنّ أهل حب الدّنيا لم
يعرفوا أن الدنيا لا توافقهم ولا تساعدهم ولا تبقى عليهم فجهلهم بها أضر بهم حتى
تعبوا في جمع ما لا يبقى.
6. تَفنى عُيونُهُمُ دَمعاً
وَأَنفُسُهُم في إِثرِ كُلِّ قَبيحٍ وَجهُهُ حَسَنُ
المفردات: تفنى : تنتهي في
إثر: أي بعد فراقهم
الشرح: من يحبون الدنيا يبكون حتى تنتهي عيونهم بالبكاء وأنفسهم بالحزن على كل غائب من الدّنيا وجهه
جميل وهو في الحقيقة قبيح الأفعال
قبيح – حسن: طباق
7. تَحَمَّلوا حَمَلَتكُم
كُلُّ ناجِيَةٍ فَكُلُّ بَينٍ عَلَيَّ
اليَومَ مُؤتَمَنُ
المفردات: تحمّلوا: ارحلوا ناجية:
الناقة المسرعة بين: فراق
الشرح: يقول لأحبابه: متى شئتم الرحيل فارحلوا،
فلست أبالي بفراق من بان عني بعد أن عرفت قبح أفعالكم وخبث هذا الزمان، ولا أخاف
الآن من الفراق، فكل فراق لا أحسب له حساب ولا يضرّني
8. ما في هَوادِجِكُم مِن مُهجَتي عِوَضٌ
إِن مُتُّ شَوقاً وَلا فيها لَها ثَمَنُ
الشرح: الذين في هوادجكم لا يستحقون أن أموت
شوقا من أجلهم وليسوا ثمنا لروحي.
9. يا مَن نُعيتُ عَلى بُعدٍ
بِمَجلِسِهِ كُلٌّ بِما زَعَمَ الناعونَ مُرتَهَنُ
المفردات: نعيت: وصل خبر موتي زعمَ:
اعتقدَ
الشرح: يقول قاصدا سيف الدّولة: يا من وصلكم
خبر موتي، كل إنسان سيموت فلا بد من الموت.
الصورة الفنية: شبّه
الروح بالرّهينة
10. كَم قَد قُتِلتُ وَكَم
قَد مُتُّ عِندَكُمُ ثُمَّ اِنتَفَضتُ فَزالَ القَبرُ وَالكَفَنُ
المفردات: انتفضت: نهضت بسرعة
الشرح: أي قد وصلكم خبر موتي كثيرا، ثمّ ظهر
الأمر بخلاف ذلك فكأني كنت ميتْاً ثم خرجت من القبر
زال القبر والكفن: كناية عن
استعادة ثقته بنفسه
كم: جاءت هنا بمعنى
التكثير
11. قَد كانَ شاهَدَ دَفني
قَبلَ قَولِهِمِ جَماعَةٌ ثُمَّ ماتوا قَبلَ مَن دَفَنوا
الشرح: هناك جماعة قبل الناعين قالوا أنّهم
شاهدوا دفني وهم ماتوا وأنا ما زلت على قيد الحياة، وكذلك سيموت الناعون قبلي
12. ما كُلُّ ما يَتَمَنّى
المَرءُ يُدرِكُهُ تَجري الرِياحُ بِما لا تَشتَهي السُفُنُ
الشرح: يقول: إنّ أعدائي لا يدركون ما يتمنون فالرياح لا تجري كلها كما تريده السفن.
الصورة الفنية: شبّه عدم
جريان الريح بما تشاء السفن بعد إدراك الإنسان كل الأمنيات (تشبيه ضمني)
13. إِنّي أُصاحِبُ حِلمي وَهوَ
بي كَرَمٌ وَلا
أُصاحِبُ حِلمي وَهوَ بي جُبُنُ
المفردات: الحِلم: العفو عند المقدرة
الشرح: أعفو ما دام الحلم مني منسوباً إلى الكرم، فأما إذا كان منسوباً إلى الذل
والجبن لم أصبر عليه.
الصورة الفنية: شبّه الحِلم
بالصّاحب
أصاحب-لا أصاحب: طباق سلب
14. وَلا أُقيمُ عَلى مالٍ
أَذِلُّ بِهِ وَلا أَلَذُّ بِما عِرضي
بِهِ دَرِنُ
المفردات: الدرن: القذارة
الشرح: لا آخذ المال بالذلّ، فإذا حصل لي مال
بذلّ تركته، ولا أستلذّ بشيء يلطخ عرضي بالقذارة.
15. سَهِرتُ بَعدَ رَحيلي
وَحشَةً لَكُمُ ثُمَّ
اِستَمَرَّ مَريري وَاِرعَوى الوَسَنُ
الشرح: لما فارقتكم سهرت وحشة لفراقكم، فلما طالت
الأيام نسيتكم وتسليت عنكم وعاد النوم إلى عيني.
ارعوى الوسن: كناية على
النوم براحة
16. وَإِن بُليتُ بِوُدٍّ
مِثلِ وُدِّكُمُ فَإِنَّني بِفِراقٍ مِثلِهِ
قَمِنُ
المفردات: قمن: جدير وخليق
الشرح: إن عاملني كافور(أحد حكام مصر) بمثل ما
عاملتموني به، وجرى على عادتكم في الأذى، فارقته كما فارقتكم.
17. أَبلى الأَجِلَّةَ مُهري
عِندَ غَيرِكُمُ وَبُدِّلَ العُذرُ بِالفُسطاطِ
وَالرَسَنُ
وَبُدِّلَ العُذرُ
بِالفُسطاطِ وَالرَسَنُ: كناية عن إكرامه في مصر
18. عِندَ الهُمامِ أَبي
المِسكِ الَّذي غَرِقَت في جودِهِ مُضَرُ الحَمراءِ
وَاليَمَنُ
الشرح: أقمت عند كافور الذي عم جوده جميع العرب
مضريّهم ويمنيّهم.
19. وَإِن تَأَخَّرَ عَنّي
بَعضُ مَوعِدِهِ فَما تَأَخَّرُ آمالي وَلا
تَهِنُ
المفردات: تهن: تضعف
الشرح: إن تأخر عني بعض ما وعدني به كافور من الولاية وغيرها، فإن أملي فيه في غاية
القوة، فما تتأخر آمالي فيه ولا تضعف.
20. هُوَ الوَفِيُّ وَلَكِنّي
ذَكَرتُ لَهُ مَوَدَّةً فَهوَ يَبلوها وَيَمتَحنُ
المفردات: يبلوها: يختبرها
الشرح: كنت أظهر له المودة فأذكرها له، فهو
يمتحن ما ذكرته من المودة فيؤخر وعوده لي كاختبار وامتحان لي.
أهلا بك، في انتظار تعليقك